المعركة مع إبليس
فإن الإنسان يعترضه في سيره وطريقه في هذه الدنيا أعداء من الإنس والجن؛ كما قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} سورة الأنعام(112)، وإذا كان هذا الإنسان مؤمناً بالله تعالى كثر أعداؤه، وتعددت سبل إغوائهم.. وهؤلاء الأعداء هم: الشيطان، والدنيا الغرارة، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى الباطل..
إني بُليتُ بأربـع ما سلّطوا *** إلا لعظـم بلـيتي وشقـائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي 1
إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي 1
وسيكون الكلام هنا عن العدو الأكبر وهو "الشيطان" الذي سماه الله في كتابه عدواً؛ فقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} سورة يوسف(5)، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} سورة فاطر(6).
وعداوته واضحة وجلية وظاهرة دل على ذلك الكتاب والسنة، والواقع، وعداوته قديمة وأزلية بدأت هذه المعركة مع أبينا آدم حينما وسوس له الشيطان فأخرجه من الجنة؛ كما بين الله ذلك في كثير من سور القرآن، ومن ذلك في سورة الأعراف: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ...} سورة الأعراف(20) (21)(22).
والإنسان مع هذا العدو في معركة دائمة وغير منتهية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنه هذا العدو قد أقسم بعزة الله أنه سيواصل هذه المعركة مع الإنسان؛ كما قال الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} سورة ص(82)، وقد طلب من الله أن يستمر في هذه المعركة إلى يوم البعث؛ كما قال الله -تعالى-: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} سورة ص(79)؛ أي أخرني؟ فرد الله عليه قائلاً: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} سورة ص(80)(81)..
هذا العدو سبب لزوال كل خير ونعمة، وسبب لحلول كل شر ونقمة، يقول ابن القيم-رحمه الله- عن هذا العدو: "فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية، وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون" 2 .
وهذا العدو يسير في حربه ومعركته مع الإنسان على وفق خطة مدروسة، وعبر مراحل مختلفة؛ هذه المراحل أجملها ابن القيم -رحمه الله- في سبع مراحل، عبَّر عنها بقول: "سبع عقبات بعضها أصعب من بعض؛ لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها".
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه"؛ فإن لم يقدر على هذه العقبة لجأ إلى العقبة الثانية: "وهي عقبة البدعة؛ إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً، والبدعتان في الغالب متلازمتان قلّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى؛ كما قال بعضهم: "تزوجتْ بدعة الأقوال ببدعة الأعمال فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام تضج منهم العباد والبلاد إلى الله -تعالى-".
فإن لم يستطع عليه في هذه العقبة لم ييأس ولم يستسلم بل يواصل المعركة فيلجأ إلى العقبة الثالثة: "وهي عقبة الكبائر؛ فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء".
فإن لم يقدر عليه في هذه العقبة لجاء إلى العقبة الرابعة: "وهي عقبة الصغائر؛ فكال له منها بالقفزان، وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر، ما غشيت من اللمم، أو ما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها؛ فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه".
فإن لم يقدر عليه في هذه العقبة لم ييأس بل يلجأ إلى العقبة الخامسة: "وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، وأقل ما ينال منه تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية، ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات، ولكنه جاهل بالسعر".
فإن لم يقدر عليه في هذه العقبة لجاء إلى العقبة السادسة: "وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً".
قال ابن القيم معلقاً على أصحاب هذه المرتبة: "ولكن أين أصحاب هذه العقبة فهم الأفراد في العالم والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول".
فإن لم يقدر عليه في هذا العقبة لجاء إلى العقبة السابعة: "وهي عقبة لو نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه، وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير؛ فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وظاهر عليه بجنده وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله، فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين، وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له" 3 .
فيا أيها الموفق: إن هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأي سلاح صنعه البشر، ولو كان سلاحاً نووياً، ذلك أن هذا العدو يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن يواجه بسلاح أرشد إليه رب البشر؛ وهو مراغمة الشيطان ومجاهدته، وذلك بأن يعتصم الإنسان بكتاب الله، وسنة رسول الله على فهم سلف الأمة، وكذلك بمجاهدة النفس والهوى، ومخالفة الشيطان والدنيا؛ يقول القرطبي -رحمه الله-: "فمن أطاع مولاه، وجاهد نفسه وهواه، وخالف شيطانه ودنياه، كانت الجنة نزله ومأواه، وممن تمادى في غيه وطغيانه وأرخى في الدنيا زمام عصيانه ووافق نفسه وهواه في مناه ولذاته وأطاع شيطانه في جمع شهواته كانت النار أولى به؛ قال الله -تعالى-: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 4 . سورة النازعات (37- 41).
فالله الله في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله؛ فإن التمسك بذلك عصمة من الشيطان.. والله الهادي والموفق،،