سيرة شهداء ثورة 25 يناير
«.... بل أحياء عند ربهم يرزقون»
هذه الوجوه الأربعة لم تخرج لتموت.. بل لتحيا للأبد.. هتفوا باسم مصر نيابة عن 80 مليون مصرى، وصار حقا لهم، وواجبا علينا، أن يحفظ الملايين سيرتهم ويرسموا وجوههم على غلاف كتاب تاريخ جديد تبدأه مصر اليوم.
شباب
فى عمر الزهور.. الرصاص الحى، وعجلات سيارات الشرطة، كانت صك صعودهم إلى
السماء، هم الآن ينظرون إلينا، ويشيرون فى اتجاه الطريق الصحيح، ويهمسون
لنا أن الحرية عروس، مهرها الأرواح.
ادعوا لهم، وهنئوا أهلهم عليهم.. فهم أبناؤنا جميعا.. وأهلنا جميعا.
أحمد.. المهنة: صحفى.. الجريمة: متلبس بحمل موبايل بكاميرا
«مش
عارفة الضابط قتله ليه.. ماكانش ماسك حجارة ولا سلاح كل ذنبه إنه كان
بيصور أحداث القمع فى ميدان لاظوغلى»، تقولها إيناس عبدالعليم، زوجة أحمد
محمود، الصحفى بجريدة التعاون التابعة لمؤسسة الأهرام، وأول شهداء الصحافة
المصرية فى ثورة 2011.
طالبت عبدالعليم، التى تعمل
مساعد رئيس تحرير المسائية بأخبار اليوم ورئيسة قسم الشئون الخارجية بها،
بالقصاص العاجل ممن تسببوا فى وفاة زوجها ومحاكمتهم، مناشدة الجهات
المسئولة ونشطاء حقوق الإنسان بالتحقيق ومعاقبة الجناة، وأكدت عبدالعليم
لـ«الشروق» أنها تقدمت ببلاغ للنائب العام حول تفاصيل الواقعة أرسله سكرتير
نقابة الصحفيين، حاتم زكريا، ومحامى النقابة، سيد أبوزيد، عن طريق الفاكس
أمس الأول، طالبوا فيه بالتحقيق الفورى والعاجل فى ملابسات قتله.
وجاء
فى البلاغ أن الصحفى توفى متأثرا بإصابته بطلق نارى أطلقه عليه «عمدا»
ضابط شرطة برتبة نقيب كان يرتدى الزى الرسمى لحرس وزارة الداخلية يوم 29
يناير الماضى واخترقت الرصاصة مخه وسببت له نزيفا دمويا أدخله فى غيبوبة
انتهت بوفاته.
وروت زوجة الشهيد لـ«الشروق» تفاصيل مقتل زوجها، التى
علمت بها من سبعة شهود عيان من سكان منطقة لاظوغلى، الذى يوجد به مكتب
الشهيد بـ«دار اللطائف للنشر» فى العقار الملاصق لمبنى وزارة الداخلية، حيث
كان الشهيد يصور بمحموله الخاص أحداث العنف، التى شهدها الميدان بعدما
حاول عدد من المتظاهرين اقتحام وزارة الداخلية.
وأثناء تصويره تلك
الأحداث طالبه نقيب شرطة بأن يدخل من النافذة ويتوقف عن التصوير، وهو ما
استجاب له الشهيد بالفعل، لكن النقيب أطلق رصاصة فى عينه اليمنى واستقرت فى
المخ.
وأضافت الزوجة أن عددا من موظفى الدار قاموا بالاتصال
بالإسعاف لنجدته إلا أن موظف الإسعاف عندما علم بطبيعة الإصابة وعنوان
العقار رفض نقل المصاب أو إرسال سيارة له، فاضطر الموظفون لنقله فى سيارة
خاصة لمستشفى قصر العينى التى مكث فيها لمدة 5 أيام فى غيبوبة تامة لإصابته
بتهتك فى خلايا المخ ثم توفى.
«مش عارفة أقول إيه لبنته اللى
ماكملتش 10 سنين لسه، عمالة تسأل عليه بطريقة غريبة وعايزه تسمع صوته
وقولتلها إن باباكى رجليه مكسورة وموجود فى المستشفى لأنها لو عرفت إنه مات
ممكن يجيلها انهيار»، هكذا اختتمت زوجة الشهيد روايتها ودموعها لم تتوقف
لحظة، متسائلة: «مش عارفة إزاى هكمل حياتى بعد كده».
وفى سياق متصل،
نعى عدد كبير من الصحفيين، فى بيان لهم أمس الأول، الشهيد أحمد محمود،
معربين عن أسفهم من محاولات «الأهرام» تحريف خبر استشهاده وحجب المعلومات
عن وسائل الإعلام على مدى 6 أيام رقدها الشهيد فى العناية المركزة بقصر
العينى، مرجعين ذلك إلى «التغطية غير المهنية للصحافة المصرية،
التى يسيطر عليها منتفعو الحزب الحاكم وجهاز أمن الدولة». وانتقد البيان
الدور الذى وصفه بالمخزى لنقابة الصحفيين، التى تهاونت فى حماية الصحفيين
من الاعتداء والاعتقال والممارسات القمعية وصلت لاستهدافهم بالرصاص الحى،
فى الوقت الذى يتنقل فيه نقيب الصحفيين بين الفضائيات الرسمية مدافعا عن
استمرار النظام وهو ما يخالف إرادة جموع الصحفيين.
ناصر.. بجناحين من «رصاص» طار إلى السماء
«استيقظ
على خبر هجوم بلطجية الحزب الوطنى على معتصمى التحرير، ولم تمض إلا دقائق
حتى التحق بالمعتصمين فى الميدان»، هكذا تحدث محمد عويس، أخو الشهيد ناصر
عويس الذى استشهد فى نهاية معركة الأربعاء الدامى، إثر تلقيه رصاصتين فى
الرأس والصدر.
سقط شهيدا فى قلب ميدان عبدالمنعم رياض، فجر الخميس،
حيث امتدت المعركة منذ ظهر الأربعاء الدامى وحتى الساعات الأولى من اليوم
التالى.
ناصر، بحسب ما روى أخوه «كان شديد الهدوء وحسن الخلق،
وحافظا لكتاب الله تعالى»، من مواليد 1977، خريج جامعة الأزهر، متزوج وله
طفل يدعى أحمد يبلغ من العمر عاما واحدا، ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين
منذ أكثر من 15 عاما.
يصف أخو الشهيد أحداث الأربعاء الدامى قائلا
«كانت مذبحة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بعدما انتهى البلطجية من رشق
المعتصمين بالحجارة التى حملوها فى أشولة حتى العصر، بدأوا فى إلقاء قنابل
المولوتوف منذ المغرب وحتى الساعات الأخيرة من اليوم، ليبدأوا بعدها فى
إطلاق النار الحى».
«ما بين كل 5 معتصمين كان فيه 4 مصابين»، هكذا
وصف محمد عويس حجم «المأساة البشرية»، على حد تعبيره، التى شهدها ميدان
التحرير يوم الأربعاء الدامى.
«إحنا بنسيب الميدان من الفجر لغاية
الظهر نستريح ونرجع تانى، ولكن يوم الأربعاء ملحقناش نرتاح، أول ما سمعنا
إن البلطجية بيهاجموا إخواتنا نزلنا فورا»، متابعا «لم أكن أعلم أننى سأفقد
أخى فى المعركة وأعود إلى زوجته وطفله حاملا لهم آخر مشهد له».
بسيونى .. مقاتل بالريشة والفيديو وحصص الرسم
لم
تكتف الشرطة بضربه بالرصاص الحى، وإنما دهسته بعدها سيارة أمن مركزى، أتت
على ما تبقى من فرص الحياة لديه. الفنان التشكيلى أحمد بسيونى، والذى انضم
إلى قافلة شهداء الحرية فى جمعة الغضب 28 يناير.
أحمد، 33 عاما، كان يعمل
فى مجال الفنون السمعية والبصرية، حصل على الماجستير من كلية التربية
الفنية بجامعة حلوان، متزوج وله ابن يسمى آدم، 4 سنوات، وسلمى لم تكمل
عامها الأول.
يقول أخوه «باسم» لـ«الشروق» إنهم لم يحصلوا على
جثمانه إلا يوم الاربعاء الماضى 2 فبراير، رغم استشهاده قبلها بخمسة أيام
«تقرير مستشفى أم المصريين أكد إصابته برصاص حى، وبتهتك فى الذراع والصدر والأرجل، نتيجة دهس سيارة الشرطة له»، يقول باسم.
الفنان مجدى مصطفى، الذى عمل مع بسيونى فى مجال الفنون البصرية والسمعية، قال «كنا مع بعض فى مظاهرات الثلاثاء 25 يناير، لأننا نعمل
فى مجال الأفلام التسجيلية، وضربه رجال الأمن المركزى بقوة لأنه كان يحمل
كاميرا فيديو»، وتابع «قابلته يوم الجمعة 28 يناير فى منتصف ميدان التحرير،
وفرقتنا سيارة جيب كانت تسير بسرعة كبيرة ولم أره بعدها، حتى سمعت خبر
وفاته منذ عدة أيام».
مصطفى وصف صديقه الراحل بسيونى «كان فنانا مهم جداً، وحصل على الجائزة الكبرى فى مهرجان الإبداع التشكيلى عام 2007».
بعض رفاق الفنان الراحل الذين التقت بهم «الشروق» فى ميدان التحرير أكدوا أن «مستشفى أم المصريين رفض تسليم جثته إلا بعد توقيع ذويه على تنازل كامل عن جميع مستحقاته وحقوقه».
صديقه
عمر هشام يقول إن الشهيد كان يرتدى كمامة للوقاية من الغاز المسيل للدموع
وفى يده كاميرا «كان يعتبرها من لوازم الثورة، سجل بها خروج الناس إلى
الشارع، وأصوات هتافاتهم عند الفر والكر من رجال الشرطة، كان يدعو تلامذته
لتصوير كل ما يحدث، تمهيدا لعمل معرض فى نهاية هذا الشهر لكن رصاص الشرطة لم يمهله».
«كان يحرص على أن يجعل الفن مفهوما لدى طبقات الشعب العادية، وكان يزور الأماكن الشعبية فى مصر
لكى يسمعهم الموسيقى لإيمانه أنهم قادرون على تذوق الفن»، بحسب هشام،
وتابع: «آخر ما كتبه على موقع الفيس بوك: عندى أمل كبير فى الناس فى أن
تستمر فى المطالبة بحقوقها، وتأكيده لسلمية المظاهرات فى التحرير مقابل
ارهاب الشرطة»، وأشار هشام أن أحمد كان يحرص على تقديم دروس مجانية فى ورشة
عمل
فنية فى الكلية بالتعاون مع أساتذة آخرين، استمرت تلك الورشة لمدة 10
سنوات عن آخر مستجدات الفن الحديث، ووفقا لهشام: «إيمان أحمد بأن الفن
رسالة جعلته يقف فى الصفوف الاولى للمتظاهرين».
«أحمد بسيونى كان
فنانا جميلا ومبدعا فى مجال الفنون الحديثة وتسجيل الفيديو، ومر أمامى
كالطيف فى يوم 28 يناير وهى اللقطة الأخيرة التى رأيته فيها» بحسب الفنان
التشكيلى محمد عبلة، وتابع: «عملنا معاً فى مشروع تطوير الفجالة وكان شديد التحمس ومشتعل النشاط، ولديه إمكانيات متعددة».
وأعلن عبلة عن إطلاق جائزة باسم الراحل بسيونى بمجرد انتهاء الأحداث المشتعلة فى مصر، وتنظيم حفل تأبين يليق باسمه كفنان تشكيلى فريد من نوعه.
كريم.. ترك وصيته فى الشرقية.. وفى «الميدان» ضحك ثم سقط
«ابنى
راح شهيد فى أعظم ثورة فى التاريخ»، قالها الحاج أحمد رجب (63 عاما)،
متحدثا عن ابنه كريم، والذى استشهد برصاص الشرطة فى تظاهرات الغضب يوم
الخميس الماضى.
كريم ابن قرية الصنافين فى مركز منيا القمح بالشرقية، يبلغ من العمر 24 عاما، تخرج فى كلية العلوم بجامعة الأزهر ويعمل فى صيانة وإصلاح الحاسب الآلى.
يحكى
الأب أنه اكتشف وصية كتبها ابنه قبل رحيله بيومين، نصها: «أرجو أن تكثروا
من الصدقات علىَّ وأن تتقبلوا خبر استشهادى إن أكرمنى الله بها بكل فرحة،
محمد، الشقيق الأكبر لكريم، يقول: عرفت أنه ذهب لميدان التحرير بصحبة شقيقه
الأصغر عبد المعطي، ومساء يوم الخميس أعلنت وسائل الإعلام عن سقوط قتلى فى
الميدان فاتصلت بعبد المعطى، فلم يرد، وعاودتُ الاتصال بكريم فرد على
فجرا، وحذرته بأن الشهداء يسقطون فى الميدان، فقال لى لا تخف، لا يحق لنا
الخوف بعد اليوم، ثم أخذ يضحك معي، قبل أن أسمع صوت طلق نارى، ويصمت صوته
فجأة، ويتعالى هتاف آخرين معا وفى وقت واحد: لا إله إلا الله.